خَبَرُ الْإِفْكِ فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ (سَنَةَ سِتٍّ) [١]



 قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، قَالَ: كُلٌّ قَدْ حَدَّثَنِي بَعْضَ هَذَا الْحَدِيثِ، وَبَعْضُ الْقَوْمِ كَانَ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضٍ، وَقَدْ جَمَعْتُ لَكَ الَّذِي حَدَّثَنِي الْقَوْمُ.


(شَأْنُ الرَّسُولِ مَعَ نِسَائِهِ فِي سَفَرِهِ):
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ نَفْسِهَا، حِينَ قَالَ فِيهَا أَهْلُ الْإِفْكِ مَا قَالُوا، فَكُلٌّ قَدْ دَخَلَ فِي حَدِيثِهَا عَنْ هَؤُلَاءِ جَمِيعًا يُحَدِّثُ بَعْضُهُمْ مَا لَمْ يُحَدِّثْ صَاحِبَهُ، وَكُلٌّ كَانَ عَنْهَا ثِقَةً، فَكُلُّهُمْ حَدَّثَ عَنْهَا مَا سَمِعَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ، فَلَمَّا كَانَتْ غَزْوَةُ بَنِي الْمُصْطَلِقِ أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، كَمَا كَانَ يَصْنَعُ، فَخَرَجَ سَهْمِي عَلَيْهِنَّ مَعَهُ، فَخَرَجَ بِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ.

(سُقُوطُ عِقْدِ عَائِشَةَ وَتَخَلُّفُهَا لِلْبَحْثِ عَنْهُ):
قَالَتْ: وَكَانَ النِّسَاءُ إذْ ذَاكَ إنَّمَا يَأْكُلْنَ الْعُلَقَ [٢] لَمْ يَهِجْهُنَّ [٣] اللَّحْمُ فَيَثْقُلْنَ، وَكُنْتُ إذَا رَحَلَ لِي بَعِيرِي جَلَسْتُ فِي هَوْدَجِي، ثُمَّ يَأْتِي الْقَوْمُ الَّذِينَ يُرَحِّلُونَ لِي وَيَحْمِلُونَنِي، فَيَأْخُذُونَ بِأَسْفَلَ الْهَوْدَجِ، فَيَرْفَعُونَهُ، فَيَضَعُونَهُ عَلَى ظَهْرِ الْبَعِيرِ، فَيُشِدُّونَهُ بِحِبَالِهِ، ثُمَّ يَأْخُذُونَ بِرَأْسِ الْبَعِيرِ، فَيَنْطَلِقُونَ بِهِ. قَالَتْ: فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنْ سَفَرِهِ ذَلِكَ، وَجَّهَ قَافِلًا، حَتَّى إذَا كَانَ قَرِيبًا مِنْ الْمَدِينَةِ


[١] زِيَادَة عَن أ.
[٢] العلق بِضَم فَفتح: جمع علقَة، وَهِي مَا فِيهِ بلغَة من الطَّعَام إِلَى وَقت الْغَدَاء.
[٣] التهييج: كالورم فِي الْجَسَد.

نزل منزلا، فَبَاتَ بِهِ بَعْضَ اللَّيْلِ، ثُمَّ أَذَّنَ فِي النَّاسِ بِالرَّحِيلِ، فَارْتَحَلَ النَّاسُ، وَخَرَجْتُ لِبَعْضِ حَاجَتِي، وَفِي عُنُقِي عِقْدٌ لِي، فِيهِ جَزْعُ [١] ظِفَارٍ، فَلَمَّا فَرَغْتُ انْسَلَّ مِنْ عُنُقِي وَلَا أَدْرِي، فَلَمَّا رَجَعْتُ إلَى الرَّحْلِ ذَهَبْتُ أَلْتَمِسُهُ فِي عُنُقِي، فَلَمْ أَجِدْهُ، وَقَدْ أَخَذَ النَّاسُ فِي الرَّحِيلِ، فَرَجَعْتُ إلَى مَكَانِي الَّذِي ذَهَبْتُ إلَيْهِ، فَالْتَمَسْتُهُ حَتَّى وَجَدْتُهُ، وَجَاءَ الْقَوْمُ خِلَافِي، الَّذِينَ كَانُوا يُرَحِّلُونَ لِي الْبَعِيرَ، وَقَدْ فَرَغُوا مِنْ رِحْلَتِهِ، فَأَخَذُوا الْهَوْدَجَ، وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنِّي فِيهِ، كَمَا كُنْتُ أَصْنَعُ، فَاحْتَمَلُوهُ، فَشَدُّوهُ عَلَى الْبَعِيرِ، وَلَمْ يَشُكُّوا أَنِّي فِيهِ، ثُمَّ أَخَذُوا بِرَأْسِ الْبَعِيرِ، فَانْطَلَقُوا بِهِ، فَرَجَعْتُ إلَى الْعَسْكَرِ وَمَا فِيهِ مِنْ دَاعٍ وَلَا مُجِيبٍ، قَدْ انْطَلَقَ النَّاسُ.

(مُرُورُ ابْنِ الْمُعَطَّلِ بِهَا وَاحْتِمَالُهُ إيَّاهَا عَلَى بَعِيرِهِ):
قَالَتْ: فَتَلَفَّفْتُ بِجِلْبَابِي، ثُمَّ اضْطَجَعْتُ فِي مَكَانِي، وَعَرَفْتُ أَنْ لَوْ قَدْ اُفْتُقِدْتُ لَرُجِعَ إليّ. قَالَت: فو الله إنِّي لَمُضْطَجِعَةٌ إذْ مَرَّ بِي صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ، وَقَدْ كَانَ تَخَلَّفَ عَنْ الْعَسْكَرِ لِبَعْضِ حَاجَتِهِ [٢]، فَلَمْ يَبِتْ مَعَ النَّاسِ، فَرَأَى سَوَادِي، فَأَقْبَلَ حَتَّى وَقَفَ عَلَيَّ، وَقَدْ كَانَ يَرَانِي قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ عَلَيْنَا الْحِجَابُ، فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: إنَّا للَّه وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ، ظَعِينَةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ! وَأَنَا مُتَلَفِّفَةٌ فِي ثِيَابِي، قَالَ: مَا خَلَّفَكَ يَرْحَمُكَ اللَّهُ؟ قَالَتْ: فَمَا كَلَّمَتْهُ، ثُمَّ قَرَّبَ الْبَعِيرَ، فَقَالَ: ارْكَبِي، وَاسْتَأْخَرَ عَنِّي. قَالَتْ: فَرَكِبْتُ، وَأَخَذَ بِرَأْسِ الْبَعِيرِ، فَانْطَلَقَ سَرِيعًا، يطْلب النَّاس، فو الله مَا أَدْرَكْنَا النَّاسَ، وَمَا افْتَقَدْتُ حَتَّى أَصْبَحْتُ، وَنَزَلَ النَّاسُ، فَلَمَّا اطْمَأَنُّوا طَلَعَ الرَّجُلُ يَقُودُ بِي، فَقَالَ أَهْلُ الْإِفْكِ مَا قَالُوا:
فارتعج [٣] الْعَسْكَر، وو الله مَا أَعْلَمُ بِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ.

(إعْرَاضُ الرَّسُولِ عَنْهَا):
ثُمَّ قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، فَلَمْ أَلْبَثَ أَنْ اشْتَكَيْتُ شَكْوَى شَدِيدَةً، وَلَا يَبْلُغُنِي مِنْ ذَلِكَ


[١] الْجزع: الخرز. وظفار: مَدِينَة بِالْيمن قرب صنعاء، وينسب إِلَيْهَا الْجزع الظفاري.
[٢] كَانَ صَفْوَان على ساقة الْعَسْكَر يلتقط مَا يسْقط من مَتَاع الْمُسلمين، حَتَّى يَأْتِيهم بِهِ، وَلذَلِك تخلف.
(رَاجع الرَّوْض) .
[٣] ارتعج الْعَسْكَر: تحرّك واضطرب. وَفِي ر: «ارتج» أَي اضْطربَ.

شَيْءٌ، وَقَدْ انْتَهَى الْحَدِيثُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَإِلَى أَبَوَيَّ لَا يَذْكُرُونَ لِي مِنْهُ قَلِيلًا وَلَا كثيرا، إِلَّا أَتَى قَدْ أَنْكَرْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بَعْضَ لُطْفِهِ بِي، كُنْتُ إذَا اشْتَكَيْتُ رَحِمَنِي، وَلَطَفَ بِي، فَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ بِي فِي شَكْوَايَ تِلْكَ، فَأَنْكَرْتُ ذَلِكَ مِنْهُ، كَانَ إذَا دَخَلَ عَلَيَّ وَعِنْدِي أُمِّي تُمَرِّضُنِي- قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَهِيَ أُمُّ رُومَانَ، وَاسْمُهَا زَيْنَبُ بِنْتُ عَبْدِ دُهْمَانَ، أَحَدُ بَنِي فِرَاسِ ابْن غَنَمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ كِنَانَةَ- قَالَ: كَيْفَ تِيكُمْ، لَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ.

(انْتِقَالُهَا إلَى بَيْتِ أَبِيهَا وَعِلْمُهَا بِمَا قِيلَ فِيهَا):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: قَالَتْ: حَتَّى وَجَدْتُ فِي نَفْسِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، حِينَ رَأَيْتُ مَا رَأَيْتُ مِنْ جَفَائِهِ لِي: لَوْ أَذِنْتَ لِي، فَانْتَقَلْتُ إلَى أُمِّي، فَمَرَّضْتنِي؟ قَالَ:
لَا عَلَيْكَ. قَالَتْ: فَانْتَقَلْتُ إلَى أُمِّي، وَلَا عِلْمَ لِي بِشَيْءِ مِمَّا كَانَ، حَتَّى نَقِهْتُ مِنْ وَجَعِي بَعْدَ بِضْعٍ وَعَشْرَيْنِ لَيْلَةً، وَكُنَّا قَوْمًا عَرَبًا، لَا نَتَّخِذُ فِي بُيُوتِنَا هَذِهِ الْكُنُفَ الَّتِي تَتَّخِذُهَا الْأَعَاجِمُ، نَعَافُهَا وَنَكْرَهُهَا، إنَّمَا كُنَّا نَذْهَبُ فِي فُسَحِ الْمَدِينَةِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ النِّسَاءُ يَخْرُجْنَ كُلَّ لَيْلَةٍ فِي حَوَائِجِهِنَّ، فَخَرَجْتُ لَيْلَةً لِبَعْضِ حَاجَتِي وَمَعِي أُمُّ مِسْطَحٍ بِنْتُ أَبِي رُهْمِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَكَانَتْ أُمُّهَا بِنْتَ صَخْرِ بْنِ عَامِرِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمٍ، خَالَةَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه، قَالَت:
فو الله إنَّهَا لَتَمْشِي مَعِي إذْ عَثَرْتُ فِي مِرْطِهَا [١]، فَقَالَتْ: تَعِسَ مِسْطَحٌ! وَمِسْطَحٌ لَقَبٌ وَاسْمُهُ عَوْفٌ، قَالَتْ: قُلْتُ: بِئْسَ لَعَمْرُ اللَّهِ مَا قُلْتُ لِرَجُلٍ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، قَالَتْ: أَوْ مَا بَلَغَكَ الْخَبَرُ يَا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ؟ قَالَتْ: قُلْتُ: وَمَا الْخَبَرُ؟ فَأَخْبَرَتْنِي بِاَلَّذِي كَانَ مِنْ قَوْلِ أَهْلِ الْإِفْكِ، قَالَت: قلت: أوقد كَانَ هَذَا؟ قَالَتْ: نَعَمْ وَاَللَّهِ لَقَدْ كَانَ. قَالَت: فو الله مَا قَدَرْتُ عَلَى أَنْ أَقْضِيَ حَاجَتي، وَرجعت، فو الله مَا زِلْتُ أَبْكِي حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّ الْبُكَاءَ سَيَصْدَعُ [٢] كَبِدِي، قَالَتْ: وَقُلْتُ لِأُمِّي: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ، تَحَدَّثَ النَّاسُ بِمَا تَحَدَّثُوا بِهِ، وَلَا تَذْكُرِينَ لِي مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا! قَالَتْ: أَيْ بُنَيَّةُ، خَفِّضِي [٣]


[١] المرط: الكساء
[٢] سيصدع: سيشق.
[٣] خفضي عَلَيْك: هوني عَلَيْك.

عَلَيْك الشَّأْن، فو الله لَقَلَّمَا كَانَتْ امْرَأَةٌ حَسْنَاءُ، عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّهَا، لَهَا ضَرَائِرُ، إلَّا كَثَّرْنَ وَكَثَّرَ النَّاسُ عَلَيْهَا.

(خُطْبَةُ الرَّسُولِ فِي النَّاسِ يُذَكِّرُ إيذَاءَ قَوْمٍ لَهُ فِي عِرْضِهِ):
قَالَتْ: وَقَدْ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي النَّاسِ يَخْطُبُهُمْ وَلَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، مَا بَالُ رِجَالٍ يُؤْذُونَنِي فِي أَهْلِي، وَيَقُولُونَ عَلَيْهِمْ غَيْرَ الْحَقِّ، وَاَللَّهِ مَا عَلِمْتُ مِنْهُمْ إلَّا خَيْرًا، وَيَقُولُونَ ذَلِكَ لِرَجُلِ وَاَللَّهِ مَا عَلِمْتُ مِنْهُ إلَّا خَيْرًا، وَمَا يَدْخُلُ بَيْتًا مِنْ بُيُوتِي إلَّا وَهُوَ مَعِي.

(أَثَرُ ابْنِ أُبَيٍّ وَحَمْنَةُ فِي إشَاعَةِ هَذَا الْحَدِيثِ):
قَالَتْ: وَكَانَ كَبُرَ [١] ذَلِكَ عِنْدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ بن سَلُولَ فِي رِجَالٍ مِنْ الْخَزْرَجِ مَعَ الَّذِي قَالَ مِسْطَحٌ وَحَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ، وَذَلِكَ أَنَّ أُخْتَهَا زَيْنَبَ بِنْتُ جَحْشٍ كَانَتْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَلَمْ تَكُنْ مِنْ نِسَائِهِ امْرَأَةٌ تُنَاصِينِي [٢] فِي الْمَنْزِلَةِ عِنْدَهُ غَيْرُهَا، فَأَمَّا زَيْنَبُ فَعَصَمَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِدِينِهَا فَلَمْ تَقُلْ إلَّا خَيْرًا وَأَمَّا حَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ، فَأَشَاعَتْ مِنْ ذَلِكَ مَا أَشَاعَتْ، تُضَادُّنِي لِأُخْتِهَا، فَشَقِيَتْ بِذَلِكَ.

(مَا كَانَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ خُطْبَةِ الرَّسُولِ):
فَلَمَّا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ تِلْكَ الْمَقَالَةَ، قَالَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنْ يَكُونُوا مِنْ الْأَوْسِ نَكْفِكَهُمْ، وَإِنْ يَكُونُوا مِنْ إخْوَانِنَا مِنْ الْخَزْرَجِ، فمرنا بِأَمْرك، فو الله إنَّهُمْ لَأَهْلٌ أَنْ تُضْرَبَ أَعْنَاقُهُمْ، قَالَتْ: فَقَامَ سَعْدُ ابْن عُبَادَةَ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ يَرَى رَجُلًا صَالِحًا، فَقَالَ: كَذَبْتُ لَعَمْرُ اللَّهِ، لَا نَضْرِبُ أَعْنَاقَهُمْ، أَمَا وَاَللَّهِ مَا قُلْتَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ إلَّا أَنَّكَ قَدْ عَرَفْتُ أَنَّهُمْ مِنْ الْخَزْرَجِ وَلَوْ كَانُوا مِنْ قَوْمِكَ مَا قُلْتَ هَذَا، فَقَالَ أُسَيْدٌ: كَذَبْتُ لَعَمْرُ اللَّهِ، وَلَكِنَّكَ مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنْ الْمُنَافِقِينَ، قَالَتْ: وَتَسَاوَرَ [٣] النَّاسُ، حَتَّى كَادَ يَكُونُ بَيْنَ هَذَيْنِ


[١] الْكبر بِالضَّمِّ وَالْكَسْر: الْإِثْم، ومعظم الشَّيْء.
[٢] كَذَا فِي الرَّوْض. قَالَ السهيليّ: «وَقَول عَائِشَة: لم تكن امْرَأَة تناصبنى فِي الْمنزلَة عِنْده غَيرهَا، هَكَذَا فِي الأَصْل «تناصبنى»، وَالْمَعْرُوف فِي الحَدِيث: تناصينى، من المناصاة وَهِي الْمُسَاوَاة» .
[٣] وتساور النَّاس: قَامَ بَعضهم إِلَى بعض، وَفِي بعض النّسخ: «تثاوروا» .

الْحَيَّيْنِ مِنْ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ شَرٌّ. وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَدَخَلَ عَلَيَّ

(اسْتِشَارَةُ الرَّسُولِ لِعَلِيِّ وَأُسَامَةَ):
(قَالَتْ [١]) فَدَعَا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، فَاسْتَشَارَهُمَا، فَأَمَّا أُسَامَةُ فَأَثْنَى عَلَيَّ خَيْرًا وَقَالَهُ، ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَهْلُكَ وَلَا نَعْلَمُ مِنْهُمْ إلَّا خَيْرًا، وَهَذَا الْكَذِبُ وَالْبَاطِلُ، وَأَمَّا عَلِيٌّ فَإِنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ النِّسَاءَ لَكَثِيرٌ، وَإِنَّكَ لَقَادِرٌ عَلَى أَنْ تَسْتَخْلِفَ، وَسَلْ الْجَارِيَةَ، فَإِنَّهَا سَتُصْدِقُكَ.
فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَرِيرَةَ لِيَسْأَلَهَا، قَالَتْ: فَقَامَ إلَيْهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَضَرَبَهَا ضَرْبًا شَدِيدًا، وَيَقُولُ: اُصْدُقِي رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، قَالَتْ: فَتَقُولُ وَاَللَّهِ مَا أَعْلَمُ إلَّا خَيْرًا، وَمَا كُنْتُ أَعِيبُ عَلَى عَائِشَةَ شَيْئًا، إلَّا أَنِّي كُنْتُ أَعْجِنُ عَجِينِي، فَآمُرُهَا أَنْ تَحْفَظَهُ، فَتَنَامُ عَنْهُ، فَتَأْتِي الشَّاةُ فَتَأْكُلُهُ.

(نُزُولُ الْقُرْآنِ بِبَرَاءَةِ عَائِشَةَ):
قَالَتْ: ثُمَّ دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَعِنْدِي أَبَوَايَ، وَعِنْدِي امْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، وَأَنَا أَبْكِي، وَهِيَ تَبْكِي مَعِي، فَجَلَسَ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا عَائِشَةُ، إنَّهُ قَدْ كَانَ مَا قَدْ بَلَغَكَ مِنْ قَوْلِ النَّاسِ، فَاتَّقِي اللَّهَ، وَإِنْ كُنْتُ قَدْ قَارَفْتُ سُوءًا [٢]، مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ فَتُوبِي إلَى اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عباده، قَالَت: فو الله مَا هُوَ إلَّا أَنْ قَالَ لِي ذَلِكَ، فَقَلَصَ [٣] دَمْعِي، حَتَّى مَا أُحِسَّ مِنْهُ شَيْئًا، وَانْتَظَرْتُ أَبَوَيَّ أَنْ يُجِيبَا عَنِّي رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَلَمْ يَتَكَلَّمَا قَالَتْ: وَاَيْمُ اللَّهِ لَأَنَا كُنْتُ أَحْقَرَ فِي نَفْسِي، وَأَصْغَرَ شَأْنًا مِنْ أَنْ يُنْزِلَ اللَّهُ فِيَّ قُرْآنًا يُقْرَأُ بِهِ فِي الْمَسَاجِدِ، وَيُصَلَّى بِهِ، وَلَكِنِّي قَدْ كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي نَوْمِهِ شَيْئًا يُكَذِّبُ بِهِ اللَّهُ عَنِّي، لِمَا يَعْلَمُ مِنْ بَرَاءَتِي، أَوْ يُخْبِرُ خَبَرًا، فَأَمَّا قُرْآنٌ ينزل فىّ، فو الله لَنَفْسِي كَانَتْ أَحْقَرَ عِنْدِي مِنْ ذَلِكَ. قَالَتْ: فَلَمَّا لَمْ أَرَ أَبَوَيَّ يَتَكَلَّمَانِ، قَالَتْ: قُلْتُ لَهُمَا: أَلَا تُجِيبَانِ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ؟


[١] زِيَادَة عَن أ.
[٢] قارفت سوءا: دخلت فِيهِ.
[٣] قلص: ارْتَفع.

قَالَتْ: فَقَالَا: وَاَللَّهِ مَا نَدْرِي بِمَاذَا نجيبه، قَالَت: وو الله مَا أَعْلَمُ أَهْلَ بَيْتٍ دَخَلَ عَلَيْهِمْ مَا دَخَلَ عَلَى آلِ أَبِي بَكْرٍ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ، قَالَتْ: فَلَمَّا أَنْ اسْتَعْجَمَا عَلَيَّ، اسْتَعْبَرْتُ فَبَكَيْتُ، ثُمَّ قُلْتُ: وَاَللَّهِ لَا أَتُوبُ إلَى اللَّهِ مِمَّا ذَكَرْتُ أَبَدًا. وَاَللَّهِ إنِّي لَأَعْلَمُ لَئِنْ أَقْرَرْتُ بِمَا يَقُولُ النَّاسُ، وَاَللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي مِنْهُ بَرِيئَةٌ، لَأَقُولَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ، وَلَئِنْ أَنَا أَنْكَرْتُ مَا يَقُولُونَ لَا تُصَدِّقُونَنِي. قَالَتْ: ثُمَّ الْتَمَسْتُ اسْمَ يَعْقُوبَ فَمَا أَذْكُرُهُ، فَقُلْتُ:
وَلَكِنْ سَأَقُولُ كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ: «فَصَبْرٌ جَمِيلٌ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تصفون» . قَالَت: فو الله مَا بَرِحَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَجْلِسَهُ حَتَّى تَغَشَّاهُ مِنْ اللَّهِ مَا كَانَ يَتَغَشَّاهُ، فَسُجِّيَ بِثَوْبِهِ وَوُضِعَتْ لَهُ وِسَادَةُ مِنْ أَدَمٍ تَحْتُ رَأْسِهِ، فَأَمَّا أَنَا حِينَ رَأَيْتُ مِنْ ذَلِكَ مَا رَأَيْت، فو الله مَا فَزِعْتُ وَلَا بَالَيْتُ، قَدْ عَرَفْتُ أَنِّي بَرِيئَةٌ، وَأَنَّ اللَّهَ عز وجل غَيْرُ ظَالِمِي، وأمّا أبواي، فو الّذي نَفْسُ عَائِشَةَ بِيَدِهِ، مَا سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حَتَّى ظَنَنْتُ لَتَخْرُجَنَّ أَنَفْسُهُمَا، فَرَقًا مِنْ أَنْ يَأْتِيَ مِنْ اللَّهِ تَحْقِيقُ مَا قَالَ النَّاسُ، قَالَتْ: ثُمَّ سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَجَلَسَ، وَإِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ [١] فِي يَوْمٍ شَاتٍ، فَجَعَلَ يَمْسَحُ الْعَرَقَ عَنْ جَبِينِهِ، وَيَقُولُ: أَبْشِرِي يَا عَائِشَةُ، فَقَدْ أَنَزَلَ اللَّهُ بَرَاءَتَكَ، قَالَتْ: قُلْتُ: بِحَمْدِ اللَّهِ ثُمَّ خَرَجَ إلَى النَّاسِ، فَخَطَبَهُمْ، وَتَلَا عَلَيْهِمْ مَا أَنَزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ الْقُرْآنِ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ أَمَرَ بِمِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ، وَحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ، وَحَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَكَانُوا مِمَّنْ أَفْصَحَ بِالْفَاحِشَةِ، فَضُرِبُوا حَدَّهُمْ.

(أَبُو أَيُّوبَ وَذِكْرُهُ طُهْرَ عَائِشَةَ لِزَوْجِهِ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي أَبِي إسْحَاقُ بْنُ يَسَارٍ عَنْ بَعْضِ رِجَالِ بَنِي النَّجَّارِ:
أَنَّ أَبَا أَيُّوبٍ خَالِدَ بْنَ زَيْدٍ، قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ أُمُّ أَيُّوبَ: يَا أَبَا أَيُّوبَ، أَلَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ النَّاسُ فِي عَائِشَةَ؟ قَالَ: بَلَى، وَذَلِكَ الْكَذِبُ، أَكُنْتُ يَا أُمَّ أَيُّوبَ فَاعِلَةٌ؟
قَالَتْ: لَا وَاَللَّهِ مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَهُ، قَالَ: فَعَائِشَةُ وَاَللَّهِ خَيْرٌ مِنْكَ.

(مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ فِي ذَلِكَ):
قَالَتْ: فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ بِذِكْرِ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْفَاحِشَةِ مَا قَالَ مِنْ أَهْلِ الْإِفْكِ



[١] الجمان: حب من فضَّة يصنع فِي مثل الدّرّ.

فَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ، لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ، وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ ٢٤: ١١، وَذَلِكَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَصْحَابُهُ الَّذِينَ قَالُوا مَا قَالُوا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: وَذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وَأَصْحَابُهُ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَاَلَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ، وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ قَبْلَ هَذَا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا ٢٤: ١٢: أَيْ فَقَالُوا كَمَا قَالَ أَبُو أَيُّوبَ وَصَاحِبَتُهُ، ثُمَّ قَالَ: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ، وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ، وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا، وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ ٢٤: ١٥.

(هَمُّ أَبِي بَكْرٍ بِعَدِمِ الْإِنْفَاقِ عَلَى مِسْطَحٍ ثُمَّ عُدُولُهُ):
فَلَمَّا نَزَلَ هَذَا فِي عَائِشَةَ، وَفِيمَنْ قَالَ لَهَا مَا قَالَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ لِقَرَابَتِهِ وَحَاجَتِهِ: وَاَللَّهِ لَا أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا، وَلَا أَنْفَعُهُ بِنَفْعِ أَبَدًا بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ، وَأَدْخَلَ عَلَيْنَا، قَالَتْ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ، وَالله غَفُورٌ رَحِيمٌ ٢٤: ٢٢.

(تَفْسِيرُ ابْنِ هِشَامٍ بَعْضَ الْغَرِيبِ):
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: يُقَالُ: كِبْره وكُبْره فِي الرِّوَايَةِ، وَأَمَّا فِي الْقُرْآنِ فَكِبْرُهُ بِالْكَسْرِ [١] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: «وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ ٢٤: ٢٢» وَلَا يَأْلُ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ.
قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ بْنُ حِجْرٍ الْكِنْدِي:
أَلَا رُبَّ خَصْمٌ فِيكَ أَلْوَى رَدَدْتُهُ ... نَصِيحٌ عَلَى تَعْذَالِهِ غَيْرُ مُؤْتَلِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ، وَيُقَالُ: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ ٢٤: ٢٢: وَلَا يَحْلِفُ أُولُو الْفَضْلِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، فِيمَا بَلَغْنَا عَنْهُ.


[١] هَذِه الْعبارَة من قَوْله «قَالَ ابْن هِشَام» إِلَى قَوْله «بِالْكَسْرِ» سَاقِطَة فِي أ.

وَفِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ٢: ٢٢٦ وَهُوَ مِنْ الْأَلْيَةِ، وَالْأَلْيَةُ: الْيَمِينُ. قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ:
آلَيْتُ مَا فِي جَمِيعِ النَّاسِ مُجْتَهِدًا ... مِنِّي أَلِيَّةَ بِرٍّ غَيْرَ إفْنَادِ [١]
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ، سَأَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي مَوْضِعِهَا. فَمَعْنَى: أَنْ يُؤْتَوْا فِي هَذَا الْمَذْهَبِ: أَنْ لَا يُؤْتَوْا، وَفِي كِتَابِ اللَّهِ عز وجل: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا ٤: ١٧٦ يُرِيدُ: أَنْ لَا تَضِلُّوا، وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ ٢٢: ٦٥ يُرِيدُ أَنْ لَا تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ، وَقَالَ ابْنُ مُفَرَّغٍ الْحِمْيَرِيُّ:
لَا ذَعَرْتُ السَّوَامَ فِي وَضَحِ الصُّبْحِ ... مُغِيرًا وَلَا دُعِيتُ يَزِيدَا [٢]
يَوْمَ أُعْطَى مَخَافَةَ الْمَوْتِ ضَيْمًا ... وَالْمَنَايَا يَرْصُدْنَنِي أَنْ أَحِيدَا [٣]
يُرِيدُ: أَنْ لَا أحيد، وَهَذَا الْبَيْتَانِ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: قَالَتْ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَلَى وَاَللَّهِ، إنِّي لَأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي، فَرَجَّعَ إلَى مِسْطَحٍ نَفَقَتَهُ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَنْزِعُهَا مِنْهُ أَبَدًا
. (هَمُّ ابْنِ الْمُعَطَّلِ بِقَتْلِ حَسَّانَ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ إنَّ صَفْوَانَ بْنَ الْمُعَطَّلِ اعْتَرَضَ حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ بِالسَّيْفِ، حِينَ بَلَغَهُ مَا كَانَ يَقُولُ فِيهِ، وَقَدْ كَانَ حَسَّانُ قَالَ شِعْرًا مَعَ ذَلِكَ يُعَرِّضُ بِابْنِ الْمُعَطَّلِ فِيهِ، وَبِمَنْ أَسْلَمَ مِنْ الْعَرَبِ مِنْ مُضَرَ، فَقَالَ:
أَمْسَى الْجَلَابِيبُ قَدْ عَزُّوا وَقَدْ كَثُرُوا ... وَابْنُ الْفُرَيْعَةَ أَمْسَى بَيْضَةَ الْبَلَدِ [٤]
قَدْ ثَكِلَتْ أُمُّهُ مَنْ كُنْتَ صَاحِبَهُ ... أَوْ كَانَ مُنْتَشِبًا فِي بُرْثُنِ الْأَسَدِ [٥]
مَا لِقَتِيلِي الَّذِي أَغْدُو فَآخُذُهُ ... مِنْ دِيَةٍ فِيهِ يُعْطَاهَا وَلَا قَوَدِ [٦]


[١] الإفناد: الْكَذِب.
[٢] ذعرت: أفزعت. والسوام: المَال الْمُرْسل فِي المرعى. والوضح: الْبيَاض.
[٣] الضيم: الذل. وأحيد: أعدل.
[٤] الجلابيب: الغرباء. وبيضة الْبَلَد: أَي مُنْفَردا لَا يدانيه أحد، قَالَ أَبُو ذَر: «وَهُوَ فِي هَذَا الْموضع مدح، وَقد يكون ذما، وَذَلِكَ إِذا أُرِيد أَنه ذليل لَيْسَ مَعَه غَيره» .
[٥] ثكلته أمه: فقدته. والبرثن: الْكَفّ مَعَ الْأَصَابِع، ومخلب الْأسد، أَو هُوَ للسبع كالإصبع للْإنْسَان.
[٦] الْقود: قتل النَّفس.

مَا الْبَحْرُ حِينَ تَهُبُّ الرِّيحُ شَامِيَّةً ... فَيَغْطَئِلُ وَيَرْمِي الْعِبْرَ بِالزَّبَدِ [١]
يَوْمًا بِأَغْلَبَ مِنِّي حِينَ تُبْصِرُنِي ... مِلْغَيِظٍ أَفْرِي كَفَرْيِ الْعَارِضِ الْبَرِدِ [٢]
أُمَّا قُرَيْشٌ فَإِنِّي لَنْ أُسَالِمَهُمْ ... حَتَّى يُنِيبُوا مِنْ الْغِيَّاتِ لِلرُّشْدِ [٣]
وَيَتْرُكُوا اللَّاتَ وَالْعُزَّى بِمَعْزِلَةٍ ... وَيَسْجُدُوا كُلُّهُمْ لِلْوَاحِدِ الصَّمَدِ
وَيَشْهَدُوا أَنَّ مَا قَالَ الرَّسُولُ لَهُمْ ... حَقٌّ وَيُوفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ وَالْوُكُدِ [٤]
فَاعْتَرَضَهُ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ، فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ، ثُمَّ قَالَ: كَمَا حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ:
تَلَقَّ [٥] ذُبَابُ السَّيْفِ عَنِّي فَإِنَّنِي ... غُلَام إِذا هُوَ جيت لَسْتُ بِشَاعِرٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيُّ: أَنَّ ثَابت بن لَيْسَ بْنَ الشَّمَّاسِ وَثَبَ عَلَى صَفْوَانَ بْنِ الْمُعَطَّلِ، حِينَ ضَرَبَ حَسَّانَ، فَجَمَعَ يَدَيْهِ إلَى عُنُقِهِ بِحَبْلِ، ثُمَّ انْطَلَقَ بِهِ إلَى دَارِ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، فَلَقِيَهُ عَبْدُ اللَّهِ ابْن رَوَاحَةَ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: أَمَا أَعْجَبَكَ ضَرْبُ حَسَّانَ بِالسَّيْفِ! وَاَللَّهِ مَا أَرَاهُ إلَّا قَدْ قَتَلَهُ، قَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ: هَلْ عَلِمَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ سلم بِشَيْءِ مِمَّا صَنَعْتُ؟ قَالَ: لَا وَاَللَّهِ، قَالَ: لَقَدْ اجْتَرَأْتُ، أَطْلِقْ الرَّجُلَ، فَأَطْلَقَهُ، ثُمَّ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَدَعَا حَسَّانَ وَصَفْوَانَ بْنَ الْمُعَطَّلِ، فَقَالَ ابْنُ الْمُعَطَّلِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: آذَانِي وَهَجَانِي، فَاحْتَمَلَنِي الْغَضَبُ، فَضَرَبْتُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِحَسَّانَ: أَحْسِنْ يَا حَسَّانُ [٦]، أَتَشَوَّهْتَ [٧] عَلَى قَوْمِي أَنْ هَدَاهُمْ اللَّهُ لِلْإِسْلَامِ، ثُمَّ قَالَ: أَحْسِنْ يَا حَسَّانُ فِي الَّذِي أَصَابَكَ، قَالَ: هِيَ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ.


[١] يغطئل: يجول ويتحرك. والعبر: جَانب النَّهر أَو الْبَحْر.
[٢] أفرى: أقطع. والعارض: السَّحَاب. وَالْبرد (بِكَسْر الرَّاء): الّذي فِيهِ برد.
[٣] ينيبوا: يرجِعوا. والغيات: جمع غية، من الغي، وَهُوَ خلاف الرشد.
[٤] يُرِيد «بالوكد» العهود الْمُؤَكّدَة.
[٥] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «تلْحق» .
[٦] هَذِه الْعبارَة سَاقِطَة فِي.
[٧] أتشوهت على قومِي: أقبحت ذَلِك من فعلهم حِين سميتهم بالجلابيب من أجل هجرتهم إِلَى الله وَإِلَى رَسُوله.
٢٠- سيرة ابْن هِشَام- ٢

قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: أَبَعْدَ أَنْ هُدَاكُمْ اللَّهُ لِلْإِسْلَامِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَعْطَاهُ عِوَضًا مِنْهَا بَيْرُحَاءَ [١]، وَهِيَ قَصْرُ بَنِي حُدَيْلَةَ الْيَوْمَ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ مَالًا لِأَبِي طَلْحَةَ بْنِ سَهْلٍ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَى آلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَأَعْطَاهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَسَّانَ فِي ضَرْبَتِهِ، وَأَعْطَاهُ سِيرِينَ، أَمَةً قبطيّة، فَولدت لَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ حَسَّانَ، قَالَتْ: وَكَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ: لَقَدْ سُئِلَ عَنْ ابْنِ الْمُعَطَّلِ، فَوَجَدُوهُ رَجُلًا حَصُورًا، مَا يَأْتِي النِّسَاءَ، ثُمَّ قُتِلَ بَعْدَ ذَلِكَ شَهِيدًا.
قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ يَعْتَذِرُ مِنْ الَّذِي كَانَ قَالَ فِي شَأْنِ عَائِشَةَ رضي الله عنها:
حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بِرِيبَةٍ ... وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِ [٢]
عَقِيلَةُ حَيٍّ مِنْ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ ... كِرَامِ الْمَسَاعِي مَجْدُهُمْ غَيْرُ زَائِلِ [٣]
مُهَذَّبَةٌ قَدْ طَيَّبَ اللَّهُ خِيمَهَا ... وَطَهَّرَهَا مِنْ كُلِّ سُوءٍ وَبَاطِلِ [٤]
فَإِنْ كُنْتُ قَدْ قُلْتُ الَّذِي قَدْ زَعَمْتُمْ ... فَلَا رَفَعَتْ سَوْطِي إلَيَّ أَنَامِلِي [٥]
وَكَيْفَ وَوُدِّي مَا حَيِيتُ وَنُصْرَتِي ... لِآلِ رَسُولِ اللَّهِ زَيْنُ الْمَحَافِلِ
لَهُ رَتَبٌ عَالٍ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ ... تَقَاصَرَ عَنْهُ سَوْرَةُ الْمُتَطَاوِلِ [٦]
فَإِنَّ الَّذِي قَدْ قِيلَ لَيْسَ بِلَائِطٍ ... وَلَكِنَّهُ قَوْلُ امْرِئٍ بِي مَاحِلِ [٧]


[١] بيرحاء: بِكَسْر الْبَاء، وبإضافة الْبِئْر إِلَى حاء، وَهُوَ اسْم رجل.
[٢] الحصان: العفيفة. والرزان: الْمُلَازمَة موضعهَا، الَّتِي لَا تتصرف كثيرا. وَمَا تزن: أَي مَا تتهم. وغرثى: جائعة. والغوافل: جمع غافلة، ويعنى بهَا الغافلة الْقلب عَن الشَّرّ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ ٢٤: ٢٣ جَعلهنَّ غافلات لِأَن الّذي رمين بِهِ من الشَّرّ لم يهممن بِهِ قطّ، وَلَا خطر على قلوبهن، فهن فِي غَفلَة عَنهُ، وَهَذَا أبلغ مَا يكون من الْوَصْف بالعفاف. وَيُرِيد بقوله «وتصبح غرثى من لُحُوم الغوافل»: أَي خميصة الْبَطن من لُحُوم النَّاس، أَي اغتيابهم.
[٣] العقيلة: الْكَرِيمَة. والمساعي: جمع مسعاة، وَهُوَ مَا يسْعَى فِيهِ من طلب الْمجد والمكارم.
[٤] الخيم: الطَّبْع.
[٥] الأنامل: الْأَصَابِع.
[٦] الرتب: مَا ارْتَفع من الأَرْض وَعلا. وَيُرِيد بِهِ هُنَا الشّرف وَالْمجد. وَالسورَة (بِفَتْح السِّين):
الوثبة. (وبضم السِّين): الْمنزلَة.
[٧] لائط: لاصق. والماحل: الْمَاشِي بالنميمة.

قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: بَيْتُهُ: «عَقِيلَةُ حَيٍّ» وَاَلَّذِي بَعْدَهُ، وَبَيْتُهُ: «لَهُ رَتَبٌ عَالٍ» عَنْ أَبِي زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ: أَنَّ امْرَأَةً مَدَحَتْ بِنْتَ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ عِنْدَ عَائِشَةَ، فَقَالَتْ:
حَصَانٌ [١] رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بِرِيبَةٍ ... وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِ [٢]
فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لَكِنْ أَبُوهَا [٣] .

(شِعْرٌ فِي هِجَاءِ حَسَّانَ وَمِسْطَحٍ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ قَائِلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي ضَرْبِ حَسَّانَ وَأَصْحَابِهِ فِي فِرْيَتِهِمْ عَلَى عَائِشَةَ- قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فِي ضَرْبِ حَسَّانَ وَصَاحِبَيْهِ-:
لَقَدْ ذَاقَ حَسَّانُ الَّذِي كَانَ أَهْلَهُ ... وَحَمْنَةُ إذْ قَالُوا هَجِيرًا وَمِسْطَحُ [٤]
تَعَاطَوْا بِرَجْمِ الْغَيْبِ زَوْجَ نَبِيِّهِمْ ... وَسَخْطَةَ ذِي الْعَرْشِ الْكَرِيمِ فَأُتْرِحُوا [٥]
وَآذَوْا رَسُولَ اللَّهِ فِيهَا فَجُلِّلُوا ... مَخَازِيَ تَبْقَى عُمِّمُوهَا وَفُضِّحُوا
وَصُبَّتْ عَلَيْهِمْ مُحْصَدَاتٌ كَأَنَّهَا ... شَآبِيبُ قَطْرٍ مِنْ ذُرَا الْمُزْنِ تُسْفَحُ [٦]


[١] حصان: من الْحصن والتحصن، وَهُوَ الِامْتِنَاع عَن الرِّجَال من نظرهم إِلَيْهَا. قَالَت جَارِيَة من الْعَرَب لأمها:
يَا أمتا أبصرنى رَاكب ... يسير فِي مسحنفر لاحب
جعلت أحثى الترب فِي وَجهه ... حصنا وأحمى حوزة الْغَائِب
فَقَالَت لَهَا أمهَا:
الْحصن أدنى لَو تآييته ... من حثيك الترب على الرَّاكِب
[٢] الرزان: الثَّقِيلَة الْحَرَكَة. وغرثى من لُحُوم الغوافل: أَي خميصة الْبَطن من لُحُوم النَّاس: أَي اغتيابهم. وَضرب الغرث مثلا، وَهُوَ عدم الطّعْم وخلو الْجوف. وَيُرِيد بالغوافل: العفائف الغافلة قلوبهن عَن الشَّرّ.
[٣] قَالَ أَبُو ذَر: «يرْوى أَبوهَا وأباها. فَمن قَالَ «أَبوهَا:» فَمَعْنَاه. لَكِن أَبوهَا لم يكن كَذَلِك، وَمن قَالَ «أَبَاهَا» فَإِنَّهُ يعْنى أَن حسان أَبى هَذِه الْفَضِيلَة» .
[٤] الهجير: الهجر وَقَول الْفَاحِش الْقَبِيح.
[٥] الرَّجْم: الظَّن. وأترحوا: أحزنوا، من التَّرَحِ، وَهُوَ الْحزن. ويروى «فأبرحوا» بِالْبَاء، وَهُوَ من البرح، أَي الْمَشَقَّة والشدة.
[٦] محصدات: يعْنى سياطا محكمَة الفتل شديدات. والشآبيب: جمع شؤبوب، وَهُوَ الدفعة من الْمَطَر.
والذرى: الأعالي. والمزن: السَّحَاب. وتسفح: تسيل.

 


Post a Comment

أحدث أقدم