(مَجِيءُ
أَبِي بَصِيرٍ إِلَى الْمَدِينَةِ وَطَلَبُ قُرَيْشٍ لَهُ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمَّا
قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْمَدِينَةَ أَتَاهُ أَبُو بَصِيرٍ عُتْبَةُ [١] بْنُ
أُسَيْدِ بْنِ جَارِيَةَ، وَكَانَ مِمَّنْ حُبِسَ بِمَكَّةَ، فَلَمَّا قَدِمَ
رَسُولُ اللَّهِ ﷺ كَتَبَ فِيهِ أَزْهَرُ بْنُ عَبْدِ عَوْفِ بْنِ عَبْدِ بْنِ
الْحَارِثِ بْنِ زُهْرَةَ، وَالْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقِ بْنِ عَمْرِو بْنِ وَهْبٍ
الثَّقَفِيُّ إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَبَعَثَا رَجُلًا مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ
لُؤَيٍّ، وَمَعَهُ مَوْلًى لَهُمْ، فَقَدِمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِكِتَابِ
الْأَزْهَرِ وَالْأَخْنَسِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: يَا أَبَا بِصَيْرِ إنَّا
قَدْ أَعْطَيْنَا هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ مَا قَدْ عَلِمْتَ، وَلَا يَصْلُحُ لَنَا
فِي دِينِنَا الْغَدْرُ، وَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ لَكَ وَلِمَنْ مَعَكَ مِنْ
الْمُسْتَضْعَفِينَ فَرْجًا وَمَخْرَجًا، فَانْطَلِقْ إلَى قَوْمِكَ، قَالَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، أَتَرُدُّنِي إلَى الْمُشْرِكِينَ يَفْتِنُونَنِي فِي دِينِي؟
قَالَ: يَا أَبَا بِصَيْرِ، انْطَلِقْ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَيَجْعَلُ لَكَ
وَلِمَنْ مَعَكَ مِنْ الْمُسْتَضْعَفِينَ فَرْجًا وَمَخْرَجًا.
(قَتْلُ
أَبِي بِصَيْرِ لِلْعَامِرِيِّ وَمَقَالَةُ الرَّسُولِ فِي ذَلِكَ):
فَانْطَلَقَ مَعَهُمَا، حَتَّى إذَا
كَانَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ [٢]، جَلَسَ إلَى جِدَارٍ، وَجَلَسَ مَعَهُ صَاحِبَاهُ،
فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ: أَصَارِمٌ سَيْفُكَ هَذَا يَا أَخَا بَنِي عَامِرٍ؟
فَقَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَنَظَرَ إلَيْهِ؟ قَالَ: اُنْظُرْ، إنْ شِئْتُ. قَالَ:
فَاسْتَلَّهُ أَبُو بَصِيرٍ، ثُمَّ عَلَاهُ بِهِ حَتَّى قَتَلَهُ، وَخَرَجَ
الْمَوْلَى سَرِيعًا حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ جَالِسٌ فِي
الْمَسْجِدِ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ طَالِعًا، قَالَ: إنَّ هَذَا
الرَّجُلَ قَدْ رَأَى فَزِعًا، فَلَمَّا انْتَهَى إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، قَالَ:
وَيحك! مَالك؟ قَالَ: قَتَلَ صَاحبكُم صَاحِبي. فو الله مَا بَرِحَ حَتَّى طَلَعَ
أَبُو بَصِيرٍ مُتَوَشِّحًا بِالسَّيْفِ، حَتَّى وَقَفَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ،
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَفَتْ ذِمَّتُكَ، وَأَدَّى اللَّهُ عَنْكَ،
أَسْلَمْتنِي بِيَدِ الْقَوْمِ وَقَدْ امْتَنَعْتُ بِدِينِي أَنْ أُفْتَنَ
[١] وَقيل عبيد: (رَاجع الِاسْتِيعَاب)
.
[٢]
ذُو الحليفة: قَرْيَة بَينهَا وَبَين الْمَدِينَة سِتَّة أَمْيَال، أَو سَبْعَة.
وَمِنْهَا مِيقَات أهل الْمَدِينَة.
فِيهِ، أَوْ يُعْبَثَ [١] بِي.
قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: وَيْلُ أُمِّهِ مِحَشَّ [٢] حَرْبٍ لَوْ كَانَ
مَعَه رجال!
(اجْتِمَاع
الْمُحْتَبَسِينَ إلَى أَبِي بِصَيْرِ وَإِيذَاؤُهُمْ قُرَيْشًا وَإِيوَاءُ
الرَّسُولِ لَهُمْ):
ثُمَّ خَرَجَ أَبُو بَصِيرٍ حَتَّى
نَزَلَ الْعِيصَ، مِنْ نَاحِيَةِ ذِي الْمَرْوَةِ، عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ،
بِطَرِيقِ قُرَيْشٍ الَّتِي كَانُوا يَأْخُذُونَ عَلَيْهَا إلَى الشَّامِ،
وَبَلَغَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ كَانُوا اُحْتُبِسُوا بِمَكَّةَ قَوْلُ رَسُولِ
اللَّهِ ﷺ لِأَبِي بِصَيْرِ: «وَيْلُ أُمِّهِ مِحَشَّ حَرْبٍ لَوْ كَانَ مَعَهُ
رِجَالٌ!، فَخَرَجُوا إلَى أَبِي بِصَيْرِ بِالْعِيصِ، فَاجْتَمَعَ إلَيْهِ
مِنْهُمْ قَرِيبٌ مِنْ سَبْعِينَ رَجُلًا، وَكَانُوا قَدْ ضَيَّقُوا عَلَى
قُرَيْشٍ، لَا يَظْفَرُونَ بِأَحَدِ مِنْهُمْ إلَّا قَتَلُوهُ، وَلَا تَمُرُّ
بِهِمْ عِيرٌ إلَّا اقْتَطَعُوهَا، حَتَّى كَتَبَتْ قُرَيْشٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ
ﷺ تَسْأَلُ بِأَرْحَامِهَا إلَّا آوَاهُمْ، فَلَا حَاجَةَ لَهُمْ بِهِمْ.
فَآوَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَقَدِمُوا عَلَيْهِ الْمَدِينَةَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَبُو بِصَيْرِ
ثَقَفِيٌّ.
(أَرَادَ سُهَيْلٌ وَدْيَ أَبِي بِصَيْرِ وَشِعْرُ مَوْهَبٍ فِي ذَلِكَ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمَّا بَلَغَ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو قَتْلُ أَبِي بَصِيرٍ صَاحِبَهُمْ الْعَامِرِيَّ، أَسْنَدَ ظَهْرَهُ إلَى الْكَعْبَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أُؤَخِّرُ ظَهْرِي عَنْ الْكَعْبَةِ حَتَّى يُودِيَ هَذَا الرَّجُلُ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ: وَاَللَّهِ إنَّ هَذَا لَهُوَ السَّفِهُ، وَاَللَّهِ لَا يُودَى (ثَلَاثًا) فَقَالَ فِي ذَلِكَ مَوْهِبُ بْنُ رِيَاحٍ أَبُو أُنَيْسٍ، حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ:
- قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَبُو أُنَيْسٍ أَشْعَرِيٌّ-
أَتَانِي عَنْ سُهَيْلٍ ذَرْءُ قَوْلٍ [٣] ... فَأَيْقَظَنِي وَمَا بِي مِنْ رُقَادِ
فَإِنْ تَكُنِ الْعِتَابَ تُرِيدُ مِنِّي ... فَعَاتِبْنِي فَمَا بِكَ مِنْ بِعَادِي
[١] فِي م، ر: «يبْعَث» وَهُوَ تَحْرِيف.
[٢]
محش حَرْب: موقد حَرْب ومهيجها، يُقَال: حششت النَّار، وأرثتها، وأذكيتها،
وأثقبتها، وسعرتها، بِمَعْنى وَاحِد. وَفِي الصَّحِيح: «ويل امهِ مسعر حَرْب»
.
[٣]
كَذَا فِي شرح السِّيرَة. وَفِي الْأُصُول: «ذرو» . قَالَ أَبُو ذَر: «ذَرْء قَول،
أَي طرف قَوْله، وَهُوَ مَهْمُوز، ويروى: ذرو قَول، بِالْوَاو. وَالصَّوَاب
الْهَمْز» .
أَتُوعِدُنِي وَعَبْدُ مَنَافٍ
حَوْلِي ... بِمَخْزُومٍ أَلَهْفًا مَنْ تُعَادَى [١]
فَإِنْ تَغْمِزْ قَنَاتِي لَا
تَجِدْنِي ... ضَعِيفَ الْعُودِ فِي الْكُرَبِ الشِّدَادِ
أُسَامِي الْأَكْرَمِينَ أَبًا
بِقَوْمِي ... إذَا وَطِئَ الضَّعِيفُ بِهِمْ أُرَادَى [٢]
هُمْ مَنَعُوا الظَّوَاهِرَ غَيْرَ
شَكٍّ ... إلَى حَيْثُ الْبَوَاطِنُ فَالْعَوَادِي [٣]
بِكُلِّ طِمِرَّةٍ وَبِكُلِّ نَهْدٍ
... سَوَاهِمَ قَدْ طُوِينَ مِنْ الطِّرَادِ [٤]
لَهُمْ بِالْخَيْفِ قَدْ عَلِمَتْ
مَعَدَّ ... رِوَاقِ الْمَجْدِ رُفِعَ بِالْعِمَادِ [٥]
(شِعْرُ
ابْنِ الزِّبَعْرَى فِي الرَّدِّ عَلَى مَوْهَبٍ):
فَأَجَابَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الزِّبَعْرَى، فَقَالَ:
وَأَمْسَى مَوْهِبٌ كَحِمَارِ سَوْءٍ
... أَجَازَ بِبَلْدَةٍ فِيهَا يُنَادِي
فَإِنَّ الْعَبْدَ مِثْلَكَ لَا
يُنَاوِي ... سُهَيْلًا ضَلَّ سَعْيُكَ مَنْ تُعَادِي [٦]
فَأَقْصِرْ يَا بْنَ قَيْنِ السُّوءِ
عَنْهُ ... وَعَدَّ عَنْ الْمَقَالَةِ فِي الْبِلَادِ [٧]
وَلَا تَذْكُرْ عِتَابَ أَبِي
يَزِيدٍ ... فَهَيْهَاتَ الْبُحُورُ مِنْ الثِّمَادِ [٨]
 
.jpeg)
إرسال تعليق